شيك بتوقيع ميت!

أغلق دفاتر الحسابات بعصبية شديدة، وانتقل من وراء الطاولة إلى مقعد قريب وهو ينظر في ساعة يده. تأخر راجي كثيراً بعد اتصاله الهاتفي، ولكن عليه أن ينتظره ليتخلص من اتهامه بسرقة أموال المصنع بعدما توفي نذير الباري إثر نشوب حريق في شقته. ولكن من أين أتى راجي بعدما كان منبوذاً ومرفوضاً من نذير؟..
الآن يتذكر أن عمه والد زوجته توفي وترك أموالاً ضخمة وعليه أن يحقق في أرقامها ويراقب دفاتر الحسابات لكي يتأكد أن المال لم يتعرض للسرقة. معه حق، إنه زوج الابنة الوارثة، ولم يبق من الوارثين سوى الابنة الصغرى رجاء، وحين اتصل في الهاتف أكد أنه اتفق مع رائدة على مراقبة دفاتر الحسابات لأن الأسرة بكاملها لم تقتنع أن نذير لم يترك سوى مصنع الألبسة ومحل البيع في السوق التجاري ومبلغ صغير من المال.

أخرجه من دوامة أفكاره صوت جرس الباب، فنهض مسرعاً ورسم على ملامحه ابتسامة بريئة، وحينما فتح الباب واجهه راجي بملامح حادة بينما ظهرت زوجته رائدة بملامح حيادية وكأنها تعرف أن أباها لا يملك سوى هذا المبلغ الضئيل من المال.

حين دخل راجي إلى المكتب طلب من رائدة أن تجلس في المكتب الخارجي لكي لا تصاب بالملل لأن تدقيق الحسابات يحتاج إلى وقت طويل. وحمل جهاز الموبايل، واتصل بأحد الأشخاص اتضح أنه مختص بالحسابات.

بعد ما يقارب العشر دقائق وصل رجل مسن، وحين فتح له مهند الباب، أكدت رائدة وهي جالسة في أقصى المكتب، أنه المحاسب رشدي الذي اتصل به زوجها قبل قليل، وعلى مدى ما يقارب ساعة كان مهند يسير عبر المكتب الواسع وينظر إلى باب المكتب الداخلي منتظراً خروج المحاسب رشدي مع راجي بعد الانتهاء من تدقيق الحسابات، ولكنه لم يتوقع أن يكتشف المحاسب أخطاء الحسابات، وحينما خرج من المكتب كان يحمل ورقة صغيرة وعدة دفاتر، وهنا نظر راجي إلى مهند وطلب منه أن يجهز نفسه للمثول أمام رجال الأمن الجنائي لأنه سيقدم بعد قليل اتهاماً واضحاً بأنه سرق المبالغ التي تركها نذير بعد رحيله.

تجمدت الكلمات على لسان مهند، ورفع يده مطالباً المحاسب رشدي بالتوقف، وأكد فوراً أن نذير كان يتعمد أن لا يظهر في دفاتره المبالغ التي يملكها خوفاً من الضرائب، وكان يقلص أرباحه ويستقطع جزءاً منها بشكل مباشر ويحمله إلى البنك بينما يسجل جزءاً قليلاً لكي يتفادى الوقوع في فخ الضرائب التصاعدية فكلما ارتفعت الأرباح ترتفع النسبة الضريبية، وعليهم أن يفهموا كيف كان يعمل نذير قبل موته. وتساءل رشدي عن مكان الأموال التي كان يستقطعها نذير من أرباحه، فقال مهند مظهراً حسن نيته أنها في البنك ويتم إدخالها إلى الحساب كدفعات نقدية، وعليه أن يتأكد من كلامه من خلال الكشف على حساب البنك. ونظر رشدي إلى راجي بتساؤل، فطلب منه راجي أن يعودا إلى المكتب الداخلي للاطلاع على حساب البنك والتأكد من صحة كلام مهند.

بعد قليل نظرت رجاء إلى مهند وتساءلت عن الحقيقة، وحاولت استدراجه وهي تؤكد له أنها مستعدة للتدخل وإبعاده عن التحقيق الأمني إذا اعترف أنه استحوذ على أموال أبيها إثر بقائه بمفرده في المكتب، فأنكر سرقته للمال بتأكد واضح، وأشار إلى أن المحاسب سيكتشف الحقيقة بعد تدقيق حسابات البنك مباشرة، وبعد لحظات خرج المحاسب مع راجي من الغرفة الداخلية وهما يبتسمان، وربت راجي على كتف مهند وهو يؤكد على أمانته وصدقه، ويعتذر عن اتهامه إياه بالاختلاس.

في شقته الصغيرة جلس مهند حائراً. منذ فترة يحتفظ بشيك فارغ وعليه توقيع نذير بعدما أجّل استعماله وهو يجري كشفاً على الحساب الثاني في البنك ويكتشف بأن الرصيد لا يكفي احتياجاته الحالية وهو يريد المشاركة في مشروع استثماري خارج البلد. الشيك جاهز للصرف فوراً، ولكن راجي أحبط خطته وحرمه من المال المجمد منذ فترة في حساب مصرفي خاص. ونهض بهدوء وسار في صالون شقته وبدأ يفكر بخطة جديدة. كيف سيحصل على المال، ولماذا يتركه لراجي وزوجته والابنة الثانية رجاء، وهو من حقه بعدما أمضى ما يقارب العشرين سنة في خدمة نذير، وكان راضياً براتب شهري صغير لأنه لا يريد التغيير في عمله، والآن توفي نذير بشكل مفاجئ بعد اندلاع النار في شقته، وسيخرج هو من العمل بدون تعويض مالي حتماً. إذن عليه أن يفكر بطريقة تفيده في قبض هذا الشيك، وما عليه سوى كتابة رقم محدد طالما أن الحساب يحتوي على ما يقارب السبعة ملايين ليرة. وتوقف مندهشاً. سبعة ملايين ليرة ستنقله من القاع إلى القمة فلماذا لا يقبضها بكاملها؟.. ولكن كيف سيتخلص من العقاب الأمني حينما يتم اكتشاف السرقة؟.. وابتسم بهدوء وهو يجري حساباً دقيقاً على الأيام التي ستسبق عملية حصر الإرث وقبض المبلغ من البنك. لن يستطيع الورثة قبض المبلغ الموجود في حساب البنك قبل شهر على الأقل، وعليه أن يتصرف بسرعة. وتوقف قليلاً ونظر في ساعة يده وقرر أن يذهب من الصباح إلى البنك ويقبض المبلغ، وحينما يصبح ثرياً سيخطط لمغادرة البلد بطريقة هادئة.

حين قدّم مهند الشيك إلى موظف البنك، أخذه منه بطريقة عادية وحوّله إلى الأقسام الأخرى ليصل في النهاية إلى أمين الصندوق. لكن الموظف سأله وهو ينهي إجراءات المعاملة المصرفية عن أسباب رغبة السيد نذير بسحب كل رصيده، فقال مهند أنه يحتاج إلى المال لكي يفتتح مصنعاً جديداً، وأيقن أن الموظف لم يعلم بحادثة وفاة نذير، وكان مجهزاً أقواله حينما سيسأله عن أسباب سحب المبلغ بعد وفاة صاحبه، وحينها سيؤكد له أن نذير أبقى هذا الشيك لكي تحصل أسرته على المال بدون اللجوء إلى عمليات تصفية الإرث ولكي يتجنب وضع ضريبة الإرث المعروفة، ولكنه أنقذه بجهله للوفاة، وبعد قليل سيقبض المبلغ وسيقرر كيف سينقله إلى بلد آخر، وحين تصفية حساب الإرث سيتفاجأ راجي وزوجته رائدة أن الحساب فارغ من الرصيد.

في غرفته بدأ بوضع الرزم المالية داخل حقيبة السفر. بعد ساعتين أو ثلاث سيصل إلى مدينة أخرى، وعبور الحدود سيتم بسرعة لأن الحقائب لا تخضع للتفتيش كما يحدث في المطارات. أخرجه من أحلامه صوت جرس الباب، وحينما تقدّم وفتحه فوجئ برجال الأمن ينظرون إليه وهم يسألون عن مهند السامي. ودخلوا بسرعة حينما تأكدوا من اسمه، وكان السؤال الأول عن الأموال التي قبضها قبل قليل من رصيد المرحوم نذير.

في قسم الشرطة، وقف راجي ينظر إلى مهند بازدراء شديد. وكانت رائدة تنظر إلى رزم المال بنشوة عارمة. وطلب الضابط إحضار الوريثة الثانية رجاء ليتم كتابة الضبط وإحالة المبلغ إلى المحكمة المختصة ليتم توزيعه بعد إجراء عملية حصر الإرث. وفجأة دخل شرطي وهمس في أذن الضابط، وخرج بسرعة، وعاد وهو ممسك بزند رجل كهل يسير فوق عكازة بتمهل شديد. وحينما وصل الرجل إلى أمام الضابط، صرخ فجأة وهو يشير إلى راجي مؤكداً أنه شاهده وهو ينزل من شقة نذير قبل وقوع حادثة الحريق بدقائق قليلة، وهو يعرفه منذ عشر سنوات تقريباً حينما كان مرتبطاً بخطوبة ابنة نذير الكبرى، ثم غاب كل هذه السنوات مما جعله يرتاب حينما شاهده من نافذة منزله في الساعات الأولى من الفجر. وهنا وجّه الضابط الاتهام إلى راجي بحرق شقة والد زوجته نذير، وبعد لحظات اتسع التحقيق حول قضية حرق الشقة، وصرخت رائدة متهمة زوجها بحرق والدها ومؤكدة بأنه الجاني لأنه كان غائباً عن البيت في ذلك الوقت من
الفجر، فانهار راجي معترفاً بجريمته، وضحك مهند بفرح بعدما شعر بأن جريمته صغيرة جداً أمام جريمة حرق الرجل في بيته.

منقووووووووول